تصفيةُ الفعل عن ملاحظة المخلوقين

Home / العلم والعلماء / تصفيةُ الفعل عن ملاحظة المخلوقين
تصفيةُ الفعل عن ملاحظة المخلوقين
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ حقيقةَ الإخلاص هي أن يريد العبدُ بعلمه وقوله وعمله ودعوته وجهَ الله الكريم، ولا يبتغي رياسةً ولا جاهًا ولا يطلب جزاءً وشكورًا، قال تعالى ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا﴾[الإنسان:9]، ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد﴾[سبأ:47]،
 ويجتهد كذلك في معرفة مواضع رضا الرَّبِّ ـ عز وجل ـ ويلزمها، ولا يغرُّه مدحُ مادحٍ ولا يضرُّه ذمُّ ذامٍّ.  
قال بعضُهم: «الإخلاصُ تصفيةُ الفعل عن ملاحظة المخلوقين».
روى أبو نُعَيْمٍ في «الحلية» (6/ 330) عن ابنِ المُبَارَك رحمه الله أنَّه قال:
«ما رأيْتُ رجلاً ارتفَعَ مثلَ مالِكِ بنِ أنسٍ، ليس له كثيرُ صلاةٍ ولا صيامٍ، إلاَّ أن تكونَ له سريرَةٌ».
وهذه السَّريرةُ هي أنَّه ما تعَلَّم ولا علَّم ولا سطَّر كلمةً إلاَّ لله، وطلبًا لمرضاته ونصرةً لدينه وسنَّةِ نبيِّه .
وروى كذلك (9/ 118 ـ 119) عن الإمام الشَّافعي رحمه الله أنَّه قال:
«ودِدتُّ أنَّ الخلقَ يتعلَّمون هذا العلمَ ولا يُنسَبُ إليَّ منه شيءٌ»،
وقال: «وددتُّ أنَّ كلَّ عِلمٍ أعلَمُه يعلمُه النَّاسُ، أُؤْجَر عليه ولا يحمدوني»،
هذا هو عينُ الإخلاص والصِّدق وابتغاءِ مرضاةِ الله تعالى.
وكان الإمامُ أحمد رحمه الله شديدَ الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحبُّ تجريدَ الحديث وَيَكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ كلامُه، ويشتدُّ عليه جِدًّا.
 قال ابنُ القيِّم في «إعلام المُوقِّعين» (2/ 49): «فعلم اللهُ حسنَ نيَّتِه وقصدِه، فكُتِبَ من كلامِه وفتواه أكثرُ من ثلاثينَ سِفْرًا».
ولمَّا حُبِسَ ابنُ تيمية رحمه الله في القلعة كان يكتُبُ لأصحابه وتلامذتِه العلم، وقبلَ وفاتِه بأشهر ورد مرسومُ السُّلطان بإخراج كلِّ ما عنده من كتب وورق وأقلام، فصار يكتب بالفَحْم.
قال تلميذُه ابنُ عبدِ الهادي رحمه الله في «العقود الدُّرِّيَّةِ» (ص379 ـ 380): «وكان بعد ذلك إذا كتب ورقةً إلى بعض أصحابِه يكتُبها بفَحمٍ، وقد رأيتُ أوراقًا عدَّة بعثها إلى أصحابِه، وبعضُها مكتوبٌ بفَحْمٍ».

فتأمَّلْ في التَّضييق الَّذي سُلِّطَ على شيخ الإسلام، إلى درجة أنَّه مُنِع من الكتابة، لكنَّ اللهَ أبى إلاَّ أن يُنشرَ علمُه وتُطبعَ كتبُه وتَخرجَ إلى النُّور، لِما علم من صدْقِه وسلامةِ قصْدِه وبلائه الحسن لإعلاء كلمته، وزهدِه في الرِّياسة والجاه والشُّهرة.

والأمثلةُ كثيرةٌ يطول ذكرُها، والمقصودُ هنا الإشارةُ والإثارةُ لتنبيهِ الغافلين وإرشادِ السَّالكين.

فشتَّان بين مَن يبتغي بعلمِه وعملِه ودعوتِه إرضاءَ ربِّه وإظهارَ دينه ونفعَ عباده وردَّ كيدِ أعدائه، وبين مَن يريد تعظيمَ نفسِه وحفظَ جاهه والتَّرؤُّسَ على غيره وإرضاءَ عبدٍ ضعيفٍ مثلِه.

قال ابنُ القيِّم في «إعلام المُوقِّعين» (6/ 106):
«فكم بين مُريدٍ بالفتوى وجهَ الله ورضاه والقربَ منه وما عنده، ومُريدٍ بها وجهَ المخلوق ورجاءَ منفعتِه وما يناله منه تخويفًا أو طمعًا، فيُفتي الرَّجلان بالفتوى الواحدةِ وبينهما في الفضل والثَّوابِ أعظمُ ممَّا بين المشرق والمغرب، هذا يُفتِي لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ودينُه هو الظَّاهرَ ورسولُه هو المطاعَ، وهذا يُفتي ليكونَ قولُه هو المسموعَ وهو المشارَ إليه، وجاهُه هو القائمَ، سواءً وافق الكتابَ والسُّنَّةَ أو خالفهما، فالله المستعان».
وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارك على نبيِّه محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه أجمعين.
كتبه : الشيخ عمر الحاج مسعود

Visits: 205