البيان الدقيق لبطلان قصة الغرانيق

Home / العقيدة والمنهج / البيان الدقيق لبطلان قصة الغرانيق
البيان الدقيق لبطلان قصة الغرانيق

من الافتراءات المكذوبة قصة ” الغرانيق ” التي أثارها بعض المستشرقين ومن تبعهم، وألصقوها بهجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة، وجعلوها سبباً لعودتهم إلى مكة، وهي قصة باطلة، اتخذها أعداء الإسلام ـ قديما وحديثا ـ سلاحاً للطعن فى عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .


وخلاصة هذه القصة المكذوبة
: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان بمكة، فقرأ سورة النجم حتى انتهى إلى قولـه تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى }(النجم الآية 19: 20 )، فجرى على لسانه: “ تلك الغرانيق (الأصنام) العُلى، وإن شفاعتهن لترتجى “، فسمع ذلك مشركوا مكة، فَسُرُّوا بذلك، فاشتَدَّ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فأنزل الله تعالى قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }( الحج الآية: 52 ) ..
وهذه القصة مع أنها ظاهرة الضعف والتهافت، واضحة البطلان لكل عاقل ومنصف، ـ لما فيها من تشكيك واضح في القرآن الكريم، وقدح في نبوة وعصمة النبي – صلى الله عليه وسلم ـ في أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد ـ، قدْ ردَّ علماء المسلمين ـ سلفاً وخلفاً ـ على هذه الفرية والقصة الباطلة .  
وهذه القصة تنافى ما هو مقطوع به من عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشرك والشك، والضلال والغفلة، ومن تسلط الشيطان عليه، وكذلك عصمته من الخطأ والسهو فى أمر التبليغ، وهو ما قام عليه إجماع الأمة قديماً وحديثاً .. فنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ محفوظ بحفظ الله له، ومعصوم بعصمة الله إياه، فالعصمة ضرورة من ضرورات صدق الرسالة، وقد تجلت رعاية الله ـ عز وجل ـ وعصمته لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عقله وقلبه من الكفر والشرك، والضلال والشك، ومن تسلط الشيطان عليه . 

 

وهذه القصة لم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الصحاح، ولا أحد من أصحاب الكتب المعتمدة كالسنن الأربعة، ومسند الإمام أحمد، وقد ذهب جماهير علماء الأمة من المحدثين والمحققين إلى إنكار القصة، والجزم بضعفها ووضعها، 
 
قال القاضى عياض: ” إن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم … ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين التابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم فيها، ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث ابن عباس، وضعفه الأئمة أيضاً ” .
 
وقال البيهقي: ” هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ” . 
 
وقال ابن حزم: ” وأما الحديث الذى فيه : ( وأنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى ) فكذب بحت موضوع، لأنه لم يصح قط من طريق النقل، فلا معنى للاشتغال به، إذ وَضْع الكذب لا يعجز عنه أحد ” .

وقال الحافظ ابن كثير:  قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم” .. والمرسل – كما هو معلوم عند جماهير المحدثين – في عداد الحديث الضعيف، قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه: ” والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحُجَّة ” .

نقل عن الحافظ ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة ” .

وقد كتب العلامة الألباني رسالة في إبطال هذه القصة بعنوان: “ نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق “، وقال في مقدمته لها: أنه سئل عن رأيه في حديث الغرانيق الذي اختلف فيه قول حافظين كبيرين، هما: ابن كثير الدمشقي، وابن حجر المصري، فقد أنكره الأول وقواه الآخر، وطُلِبَ منه الجواب عليه، فقال: ” فأجبته (أي السائل عن حديث هذه القصة) بأنه لا يصح، بل هو باطل موضوع “اه

وقال العلامة أحمد شاكر وهي قصة باطلة مردودة، كما قال القاضي عياض والنووي ـ رحمهما الله ـ 
وقد جاءت بأسانيد باطلة، ضعيفة، أومرسلة، ليس لها إسناد متصل صحيح، وقد أشار الحافظ في الفتح إلى أسانيدها، ولكنه حاول أن يدَّعي أن للقصة أصلاً لتعدد طرقها، وإن كانت مرسلة أو واهية، وقد أخطأ في ذلك خطأ لا نرضاه له، ولكل عالم زلة، عفا الله عنه ” .
وقال الشيخ الألباني: ” قد يقال: إن ما ذهبتَ إليه من تضعيف القصة سنداً وإبطالها متناً يخالف ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من تقويتها كما سبق الإشارة إليه آنفا، فالجواب: أنه لا ضير علينا منه، ولئن كنا خالفناه فقد وافقنا جماعة من أئمة الحديث والعلم” .
أما الحديث المروي من طرق صحيحة في البخاري وغيره عن عدد من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم: ( أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس فقد اقتصروا في روايتهم على هذا الجزء الصحيح من القصة، وليس فيه أي ذكر لقصة الغرانيق، فأين هذا مما يزعمه بعض المفترين من إيهام الناس أن قصة الغرانيق بما فيها من فرية وكذب ذكرها الإمام البخارى فى صحيحه؟! .
وأما سجود المشركين المذكور في هذه الرواية الصحيحة للبخاري وغيره فليس فيه ما يدل على ثبوت هذه القصة أبداً، ولا على أنهم فهموا من ذلك ما يشعر بمدح آلهتهم، لأنه يمكن أن يكون سجودهم لأسباب عدة منها: أن يكون لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة خصوصاً وقد ورد في آخرها من الوعيد الشديد، وإهلاك الله للأمم قبلهم وذلك في قوله : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى }( النجم من الآية 50 : 54)، ومثل ذلك ما حصل لعتبة بن ربيعة حين قرأ عليه النبي – صلى الله عليه وسلم- آيات من سورة فصلت وهي قوله سبحانه :{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }( فصلت الآية: 13) فأمسك عتبة بفم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وناشده بالرحم واعتذر لقومه، حين ظنوا به أنه صبأ، وقال: ” كيف وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب ” .

وإذا قال البعض أن للقصة أصلاً فيمكن أن يقال: إن الشيطان هو الذي زاد عما قاله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وذلك لأن ـ النبي صلى الله عليه وسلم ـ كان يقطع قراءته فيقف عند كل آية، فيتبع الشيطان تلك السكتات بكلام يقلد فيه صوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيسمعه المشركون فيظنوا أنه من قراءة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فبعد وقفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قراءته: { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } قال ـ الشيطان ـ ” تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى “، فأما المشركون والذين في قلوبهم مرض فنسبوها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجهلهم، حتى سجدوا معه اعتقاداً منهم أنه أثنى على آلهتهم، وعلِمَ الذين أوتوا العلم أن القرآن حق من عند الله تعالى لا يلتبس مع غيره، وقد استحسن ابن العربي هذا التأويل .

والخلاصة أن قصة الغرانيق ضعيفة بل باطلة، وأنها مما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية الصحيحة، وهي تخالف حقائق تواريخ أحداث ووقائع السيرة المشرفة، لأنها مذكورة في سياق من ساقها في آيات سورة النجم، وسورة النجم كما هو معلوم تتحدث عن المعراج في رحلة الإسراء والمعراج للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي كانت بعد السنة العاشرة، أما قصة الغرانيق هذه فإن رواياتها تبين أنها كانت فى السنة الخامسة للبعثة، وقت هجرة المسلمين الأولى للحبشة، وهذا مما يؤكد بطلان تلك القصة ويحقق كذبها لأنها تخالف وتعارض التواريخ لأحداث السيرة النبوية الصحيحة، كما أنه يستحيل شرعاً وعقلاً أن يلقي الشيطان على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الألفاظ الشركية الفاسدة، وكل الروايات الواردة فيها معلَّة إما بالإرسال أو الضعف أو الجهالة، وليس فيها ما يصلح للاحتجاج به، لاسيّما في مثل هذا الأمر الخطير، الذي يمس مقام نبينا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي قال الله ـ عز وجل ـ عنه: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(النجم من الآية 3: 4 ) .  

Visits: 107