بسم الله الرحمن الرحيم
يعتقد بعض الناس أن تقصد المشقة يحصل به الأجر الكبير ، فترى بعض الناس يستحب أداء مناسك الحج حافياً تقرباً إلى الله ، حتى يتحقق فيه قول النبي – صلى الله عليه وسلم – لعائشة : ” أجرك على قدر نصبك ” صححه الالباني.
ولحديث جابر في صحيح مسلم قال : خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفي رواية – فقالوا :ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا ”
والحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة ، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه – صلى الله عليه وسلم – : ” كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك ، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها ”
لذا فان تقصد المشقة في العبادات ممنوع لما يأتي :
أولا :لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” قول بعض الناس : الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق ، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة ، التي لم يشرعها الله ورسوله ، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث قال : ” هلك المتنطعون ”
وقال : ” لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم ” مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث ابنِ عبَّاسٍ قالَ : بينما النَّبِيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلم يخطبُ إذا هوَ برجلٍ قائمٍ في الشَّمسِ فسألَ عنْهُ قالوا هذا أبو إسرائيلَ نذرَ أن يقومَ ولاَ يقعدَ ولاَ يستظلَّ ولاَ يتَكلَّمَ ويصومَ. قالَ: “مروهُ فليتَكلَّم وليستظلَّ وليقعد وليتمَّ صومَهُ ” رواه البخاري
ثم قال – رحمه الله – : ” فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه ، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته ، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ، فيزداد الثواب بالمشقة … فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل ، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب ، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ، ولم يجعل علينا فيه حرج ، ولا أريد بنا فيه العسر ، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة ، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله ، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا ، وانقطاع القلب عن علاقة الجسد ، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم ” .
ثانياً : النيات في العبادات معتبرة في الشرع ، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع .
قال الإمام الشاطبي – رحمه الله : ” إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه ، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض ” وقال أيضا : ” ونهيه عن التشديد – أي النبي عليه الصلاة والسلام – شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلاً قطعياً ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح ، هذا واضح وبالله التوفيق ”
ثالثاً : باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات ، لقوله تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ، وقوله { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } ، وقوله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله { يريد الله أن يخفف عنكم } وقوله – صلى الله عليه وسلم – : وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً “
رابعاً : لو قصد الشارع التكاليف بالمشقة لما حصل الترخيص ، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به ، ومعلوم من الدين بالضرورة ، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين ، كرخص القصر ، والفطر والجمع بين الصلاتين .
خامساً : ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله ، لقوله تعالى : { وما أنا من المتكلفين } وقوله – صلى الله عليه وسلم – : ” اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا “.
اذا فلا حجة لمن تعلق ببعض النصوص واستدل بها على تقصد المشقة في العبادات ، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم – فمن خالف هذا الطريق يخشي عليه من الفتنة في دينه ، قال الله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } .
نسأل الله أن يحيينا على سنة نبيه وأن يميتنا عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه .
Visits: 113