قال تعالى : ” لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ”
ولشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ورفع درجته في المهديين كلام بديع في تفسير هذه الآية ، حيث قال :
” وفي معنى قوله تعالى: لم يكن هؤلاء وهؤلاء {مُنفَكِّينَ}، ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين:
1- هل المراد لم يكونوا منفكين عن الكفر؟
2- أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث، فلم يكونوا منفكين عن محمد والتصديق بنبوته حتى بعث؟
3- أو المراد أنهم لم يكونوا متروكين حتى يُرسَل إليهم رسول ؟
فنقول: القول الثالث وهو أصح الأقوال لفظًا ومعنى.
أما من جهة اللفظ ودلالته وبيانه، فإن هذا اللفظ هو مستعمل فيما يلزم به الإنسان يعني اختياره ويقهر عليه إذا تخلص منه.
يقال: انفك منه، كالأسير والرقيق المقهور بالرق والأسر.
يقال: فككت الأسير فانفك، وفككت الرقبة.
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 12-13]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري “عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني“.
وفي الصحيح أيضًا : أن عليا لما سئل عما في الصحيفة فقال: ” فيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر “. ففكه: فصله عمن يقهره ويستولي عليه بغير اختياره، والتفريق بينهما.
ويقال: فلان ما يفك فلانًا حتى يوقعه في كذا وكذا، والمتولي لا يفك هذا حتى يفعل كذا يقال لمن لزم غيره واستولي عليه إما بقدرة وقهر، وإما بتحسين وتزيين وأسباب، حتى يصير بها مطيعًا له.
ويقال للمستولَي عليه: هو ما ينفك من هذا، كما لا ينفك الأسير والرقيق من المستولِي عليه.
فقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} [البينة: 1]
أي: لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه لا حَجْر عليهم، كما أن المنفك لا حَجْر عليه.
أي: لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه لا حَجْر عليهم، كما أن المنفك لا حَجْر عليه.
وهو لم يقل: [مفكوكين] بل قال: {مُنفَكِّينَ}. وهذا أحسن، فإنه نفي لفعلهم.
ولو قال: [مفكوكين]، كان التقدير: لم يكونوا مسيبين مخلين، فهو نفي لفعل غيرهم.
والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، بل يفعلون ما شاؤوا مما تهواه الأنفس.
والمعنى: أن الله ما يخليهم ولا يتركهم. فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا.
وهذا كقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، لا يؤمر ولا ينهى.
أي: أيظن أن هذا يكون؟ هذا ما لا يكون البتة. بل لابد أن يؤمر وينهى.
وقريب من ذلك قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} [الزخرف:3-5].
وهذا استفهام إنكار، أي: لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل.
والمقصود هنا أن هذه السورة دلت على ما تدل عليه مواضع أخر من القرآن.
من أن الله يرسل الرسل إلى الناس تأمرهم وتنهاهم يرسلهم مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الأنعام:48]، ينذرون الذين أساؤوا عقوبات أعمالهم، ويبشرون الذين آمنوا وعملوا الصاحات بالنعيم المقيم، و {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:2-3].
فقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]، بيان منه أن الكفار لم يكن الله ليدعهم ويتركهم على ما هم عليه من الكفر، بل لا يفكهم حتى يرسل إليهم الرسول بشيرًا ونذيرًا {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]
ومما يبين ذلك: أن [حتى] حرف غاية، وما بعد الغاية يخالف ما قبلها. كما في قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر}ِِ [البقرة: 178]، وقوله: {حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، وقوله: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، ونظائر ذلك.
والآية تتضمن الإخبار عن وجوب إثبات البينة، وامتناع الانفكاك بدونها.
لم يقصد بها مجرد الخبر عن عدم الانفكاك ثم ثبوته في الماضي.
وهو كما لو قيل: [لم يكونوا ينفكوا حتى تأتيهم البينة]، لكن هنا ذكر اسم الفاعلين، فقيل: [منفكين].
وهو سبحانه لما ذكر أنه لابد من إرسال الرسل إلى الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب لتقوم عليهم الحجة بذلك، ذكر بعد هذا أن أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل، ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة. فبينات الله وحجته قامت على هؤلاء وهؤلاء. وهو لم يعذب واحدًا من الحزبين إلا بعد أن جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة. ” انتهى كلامه باختصار من مجموع الفتاوىالمجلد السادس عشر
Visits: 2559