بسم الله الرحمن الرحيم
قال الامام الألباني – رحمه الله – في رده على هذه الشبة في كتابه صفة الصلاة :
“وقال آخرون : إذا كان الاختلاف في الدين منهيّاً عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة، والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم، واختلاف غيرهم من المتأخرين؟ .
فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك في شيئين:
الأول: سببه.
والآخر: أثره.
فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختياراً منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم، استلزمت اختلافهم، ثم زالت من بعدهم ، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليّاً، ولا يلحق أهلَه الذمُّ الواردُ في الآيات السابقة وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة، وهو القصد، أو الإصرار عليه.
وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالباً؛ فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة، فيدعها لا لشيء؛ إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ!
وآخرون منهم على النقيض من ذلك؛ فإنهم يرون هذه المذاهب – على مابينها من اختلاف واسع – كشرائع متعددة؛ كما صرح بذلك بعض متأخريهم :
” لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع “!وقد يحتج هؤلاء، وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل:
” اختلافُ أمتي رحمة “، وكثيراً ما سمعناهم يستدلون به على ذلك!
ويعلل بعضهم هذا الحديث، ويوجهونه بقولهم: ” إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة “!
ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده.
قال ابن القاسم: ” سمعت مالكاً والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ليس كما قال ناس: “ فيه توسعة “؛ ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب ” .
وقال أشهب:” سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أتراه من ذلك في سعة؟
فقال: “لا والله! حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً؟! ما الحق والصواب إلا واحد “
وقال المُزني صاحب الإمام الشافعي:” وقد اختلف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فخطَّأ بعضهم بعضاً، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقَّبها، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم؛ لما فعلوا ذلك ” .
وقال الإمام المُزَني أيضاً:” يقال لمن جوَّز الاختلاف، وزعم أن العالِمَيْن إذا اجتهدا في الحادثة؛ فقال أحدهما: حلال. والآخر: حرام. أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق: أَبِأَصْلٍ قلتَ هذا، أم بقياس؟ فإن قال: بأصل. قيل له: كيف يكون أصلاً، والكتاب ينفي الاختلاف؟! وإن قلت: بقياس. قيل:كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟! هذا ما لا يجوّزه عاقل؛ فضلاً عن عالم ”
.قال ابن عبد البر (2/88) :” ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطَّأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم، وقضائهم، وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صواباً ” . تذكرة الحفاظ للذهبي (1/195) .
وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة المجتهدين وغيرهم
ولقد أحسن من قال:
إثبات ضدين معاً في حال … أقبح ما يأتي من المحال
فثبت أن الخلاف شرٌّ كلُّه، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم ووفقنا لاتباعهم.
فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة.
وخلاصته : إن الصحابة اختلفوا اضطراراً، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وأما المقلدة – فمع إمكانهم الخلاص منه، ولو في قسم كبير منه -؛ فلا يتفقون، ولا يسعون إليه؛ بل يُقِرُّونَهُ ، فشتان إذًا بين الاختلافين” انتهى
والحمد لله رب العالمين .
Visits: 430