الامام ابن القيم رحمه الله
ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى فى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
وكان الصديق رضى الله تعالى عنه من أرحم الأمة، وقد روى أنس بن مالك عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر“(رواه الترمذي وصححه الالباني )، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة.
كما قال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه “وكان أبو بكر رضى الله عنه أعلمنا به، يعنى النبي صلى الله تعالى وآله وسلم” فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة.
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما. فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه، والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول.
فكم من مكرم لنفسه بزعمه، وهو لها مهين، ومرفه لها، وهو لها متعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها، وقد حال بينها وبين جميع لذاتها، فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه.
فقد بخسها حظها، وأضاع حقها، وعطل مصالحها، وباع نعيمها الباقي، ولذتها الدائمة الكاملة، بلذة فانية مشوبة بالتنغيص، إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام، وليس هذا بعجيب من شأنه، وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة. فلو هدى ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذى يصلح للهدى والرحمة. فهو الذى يؤتيها العبد. كما قال عن عبده الخضر: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِلمْاً} [الكهف: 65] ، {رَبنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهِّيئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10] .
ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضى إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها. فهذه هى الرحمة الحقيقية . فأرحم الناس بك من شَقُ عليك فى إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك.
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه فى ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه [ويرفّهُهُ] ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم.
ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
وقد جاء في بعض الاثار عن بني اسرائيل :”إن المبتلى إذا دعى له: اللهم ارحمه، يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ “.وفى أثر آخر: “إن الله إذا أحب عبداً حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمى أحدكم مريضه” فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه.
كيف؟ وهو الجواد الماجد، الذى له الجود كله، وجود جميع الخلائق فى جنب وجود أقل من ذرة فى جبال الدنيا ورمالها.
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهى رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغنى الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم.
ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا فى النعيم المقيم فى داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوف بِالْعِبًادِ} [آل عمران: 30] . قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه، لئلا يغتروا به.
ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، كان لهما ضدان: الضلال والغضب.
فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهدى والرحمة، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء، وأفضله وأوجبه، وبالله التوفيق.” انتهى كلامه رحمه الله من – اغاثة اللهفان– ص473
Hits: 438