القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

Home / الرئيسية / القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

يقول الامام ابن القيم


” وَأمّا القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ فَهو أشَدُّ هَذِهِ المُحَرَّماتِ تَحْرِيمًا، وأعْظَمُها إثْمًا، ولِهَذا ذُكِرَ في المَرْتَبَةِ الرّابِعَةِ مِنَ المُحَرَّماتِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْها الشَّرائِعُ والأدْيانُ، ولا تُباحُ بِحالٍ، بَلْ لا تَكُونُ إلّا مُحَرَّمَةً، ولَيْسَتْ كالمَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ، الَّذِي يُباحُ في حالٍ دُونَ حالٍ.
فَإنَّ المُحَرَّماتِ نَوْعانِ: مُحَرَّمٌ لِذاتِهِ لا يُباحُ بِحالٍ، ومُحَرَّمٌ تَحْرِيمًا عارِضًا في وقْتٍ دُونَ وقْتٍ، قالَ اللَّهُ تَعالى في المُحَرَّمِ لِذاتِهِ ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ [الأعراف: ٣٣] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى ما هو أعْظَمُ مِنهُ فَقالَ ﴿والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ [الأعراف: ٣٣] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى ما هو أعْظَمُ مِنهُ، فَقالَ ﴿وَأنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا﴾ [الأعراف: ٣٣] ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى ما هو أعْظَمُ مِنهُ، فَقالَ ﴿وَأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٣] فَهَذا أعْظَمُ المُحَرَّماتِ عِنْدَ اللَّهِ وأشَدُّها إثْمًا، فَإنَّهُ يَتَضَمَّنُ الكَذِبَ عَلى اللَّهِ، ونِسْبَتَهُ إلى ما لا يَلِيقُ بِهِ، وتَغْيِيرَ دِينِهِ وتَبْدِيلَهُ، ونَفْيَ ما أثْبَتَهُ وإثْباتَ ما نَفاهُ، وتَحْقِيقَ ما أبْطَلَهُ وإبْطالَ ما حَقَّقَهُ، وعَداوَةَ مَن والاهُ ومُوالاةَ مَن عاداهُ، وحُبَّ ما أبْغَضَهُ وبُغْضَ ما أحَبَّهُ، ووَصَفَهُ بِما لا يَلِيقُ بِهِ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأقْوالِهِ وأفْعالِهِ.
فَلَيْسَ في أجْناسِ المُحَرَّماتِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنهُ، ولا أشَدُّ إثْمًا، وهو أصْلُ الشِّرْكِ والكُفْرِ، وعَلَيْهِ أُسِّسَتِ البِدَعُ والضَّلالاتُ، فَكُلُّ بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّينِ أساسُها القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ.
وَلِهَذا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ والأئِمَّةِ لَها، وصاحُوا بِأهْلِها مِن أقْطارِ الأرْضِ، وحَذَّرُوا فِتْنَتَهم أشَدَّ التَّحْذِيرِ، وبالَغُوا في ذَلِكَ ما لَمْ يُبالِغُوا مِثْلَهُ في إنْكارِ الفَواحِشِ، والظُّلْمِ والعُدْوانِ، إذْ مَضَرَّةُ البِدَعِ وهَدْمُها لِلدِّينِ ومُنافاتُها لَهُ أشُدُّ، وقَدْ أنْكَرَ تَعالى عَلى مَن نَسَبَ إلى دِينِهِ تَحْلِيلَ شَيْءٍ أوْ تَحْرِيمَهُ مِن عِنْدِهِ، بِلا بُرْهانٍ مِنَ اللَّهِ، فَقالَ ﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦] الآيَةَ.
فَكَيْفَ بِمَن نَسَبَ إلى أوْصافِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ما لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ؟ أوْ نَفى عَنْهُ مِنها ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟
قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لِيَحْذَرْ أحَدُكم أنْ يَقُولَ: أحَلَّ اللَّهُ كَذا، وحَرَّمَ اللَّهُ كَذا، فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ، لَمْ أُحِلَّ هَذا، ولَمْ أُحَرِّمْ هَذا.
يَعْنِي التَّحْلِيلَ والتَّحْرِيمَ بِالرَّأْيِ المُجَرَّدِ، بِلا بُرْهانٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ.
وَأصْلُ الشِّرْكَ والكُفْرِ هو القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، فَإنَّ المُشْرِكَ يَزْعُمُ أنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ مَعْبُودًا مِن دُونِ اللَّهِ، يُقَرِّبُهُ إلى اللَّهِ، ويَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُ، ويَقْضِي حاجَتَهُ بِواسِطَتِهِ، كَما تَكُونُ الوَسائِطُ عِنْدَ المُلُوكِ، فَكُلُّ مُشْرِكٍ قائِلٌ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، دُونَ العَكْسِ، إذِ القَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ قَدْ يَتَضَمَّنُ التَّعْطِيلَ والِابْتِداعَ في دِينِ اللَّهِ، فَهو أعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ، والشِّرْكُ فَرْدٌ مِن أفْرادِهِ.
وَلِهَذا كانَ الكَذِبُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُوجِبًا لِدُخُولِ النّارِ، واتِّخاذِ مَنزِلَةٍ مِنها مُبَوَّءًا، وهو المَنزِلُ اللّازِمُ الَّذِي لا يُفارِقُهُ صاحِبُهُ، لِأنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلْقَوْلِ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ، كَصَرِيحِ الكَذِبِ عَلَيْهِ، لِأنَّ ما انْضافَ إلى الرَّسُولِ فَهو مُضافٌ إلى المُرْسِلِ، والقَوْلُ عَلى اللَّهِ بِلا عِلْمٍ صَرِيحٍ افْتِراءُ الكَذِبِ عَلَيْهِ ﴿وَمَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ [الأنعام: ٢١].
فَذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ كُلُّها داخِلَةٌ تَحْتَ هَذا الجِنْسِ فَلا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ مِنهُ إلّا بِالتَّوْبَةِ مِنَ البِدَعِ.
وَأنّى بِالتَّوْبَةِ مِنها لِمَن لَمْ يَعْلَمْ أنَّها بِدْعَةٌ، أوْ يَظُنُّها سُنَّةً، فَهو يَدْعُو إلَيْها، ويَحُضُّ عَلَيْها؟ فَلا تَنْكَشِفُ لِهَذا ذُنُوبُهُ الَّتِي تَجِبُّ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنها إلّا بِتَضَلُّعِهِ مِنَ السُّنَّةِ، وكَثْرَةِ اطِّلاعِهِ عَلَيْها، ودَوامِ البَحْثِ عَنْها والتَّفْتِيشِ عَلَيْها، ولا تَرى صاحِبَ بِدْعَةٍ كَذَلِكَ أبَدًا.
فَإنَّ السُّنَّةَ بِالذّاتِ تَمْحَقُ البِدْعَةَ، ولا تَقُومُ لَها، وإذا طَلَعَتْ شَمْسُها في قَلْبِ العَبْدِ قَطَعَتْ مِن قَلْبِهِ ضَبابَ كُلِّ بِدْعَةٍ، وأزالَتْ ظُلْمَةَ كُلِّ ضَلالَةٍ، إذْ لا سُلْطانَ لِلظُّلْمَةِ مَعَ سُلْطانِ الشَّمْسِ، ولا يَرى العَبْدُ الفَرْقَ بَيْنَ السُّنَّةِ والبِدْعَةِ، ويُعِينُهُ عَلى الخُرُوجِ مِن ظُلْمَتِها إلى نُورِ السُّنَّةِ، إلّا المُتابَعَةُ، والهِجْرَةُ بِقَلْبِهِ كُلَّ وقْتٍ إلى اللَّهِ، بِالِاسْتِعانَةِ والإخْلاصِ، وصِدْقِ اللَّجْإ إلى اللَّهِ، والهِجْرَةِ إلى رَسُولِهِ، بِالحِرْصِ عَلى الوُصُولِ إلى أقْوالِهِ وأعْمالِهِ وهَدْيِهِ وسُنَّتِهِ «فَمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ» ومَن هاجَرَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ فَهو حَظُّهُ ونَصِيبُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ. “

Visits: 16