انَّ مَحَبَّةَ النّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمكّةَ لا مِن أجلِ الوطنِ، وإنّما لكونِها خيرَ بقاعِ الأرضِ عند اللهِ تعالى

Home / الفقه / انَّ مَحَبَّةَ النّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمكّةَ لا مِن أجلِ الوطنِ، وإنّما لكونِها خيرَ بقاعِ الأرضِ عند اللهِ تعالى
انَّ مَحَبَّةَ النّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمكّةَ لا مِن أجلِ الوطنِ، وإنّما لكونِها خيرَ بقاعِ الأرضِ عند اللهِ تعالى
قال العلامة محمد بن علي فركوس الجزائري :
فالذي ينبغي أن يُعلمَ أنّ محبّةَ الأوطانِ من مشاعرِ الفطرةِ والغريزةِ في الإنسانِ، فشأنُ حُبِّ الوطنِ كشأنِ حبِّ النّفسِ والآباءِ والمالِ والمطاعمِ والمراكبِ ونحوِ ذلك، وليس حبُّ الوطنِ -في ذاتِه- من الإيمانِ ولا من مقتضَياتِه ولوازمِه بدليلِ اشتراكِ النّاسِ فيه من غيرِ فرقٍ بين أهلِ التّقوى والإيمانِ وأهلِ الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، بل من مقتضَياتِ الإيمانِ أن نفرّقَ بين المؤمنِ وغيرِه وبين المتّقي والفاجرِ؛ كما نصّت عليه الآياتُ القرآنيّةُ في قولِه تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: ١٨]، وقولِه تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: ٣٥-٣٦]، وقولِه تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: ٢٨]، وقولِه تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: ٢١].
وأمَّا استدلالُ دعاةِ الوطنيّةِ بقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم في فضلِ مكّةَ المكرَّمةِ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَاللهِ لَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ»، فليس فيه ما يدلّ على أنّ حبَّ الوطنِ من الإيمانِ؛ ذلك لأنّ محبّةَ النّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمكّةَ لا مِن أجلِ الوطنِ، وإنّما لكونِها خيرَ بقاعِ الأرضِ عند اللهِ تعالى، وقد نصّ عليه الحديثُ صراحةً في روايةِ التّرمذيّ وفيه: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ»، وهذا ظاهرٌ لكونِها أماكنَ العبادةِ والحجِّ، وفيها تقوى القلوبِ بتعظيمِ شعائرِ اللهِ، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحجّ: ٣٢]، ومثيلُه قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَحَبُّ البِلاَدِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ لأنّها أماكنُ العبادةِ يَعْمُرُها المصلِّي بذكرِ اللهِ والمناجاةِ وكثرةِ التّردّدِ إليها للصّلاةِ، وفيها يجتمع بإخوانِه المؤمنين فتتقوّى صِلَتُهم على حبِّ اللهِ وطاعتِه، وفي هذا خيرُ الدّنيا وسعادةُ الآخرةِ.
هذا، ولا يخفى أنّ التّركيزَ على مبدإِ الوطنيّةِ أمرٌ خطيرٌ على عقيدةِ المسلمِ وواقعِه، فهو بغضِّ النّظرِ عن مصدرِه العلمانيِّ فهو مُزيحٌ لعقيدةِ الولاءِ والبراءِ الشّرعيِّ، ومُقْصٍ لرابطةِ الأخوّةِ الإيمانيّةِ المنصوصِ عليها في قولِه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وإحلالُ الرّابطةِ الوطنيّةِ محلَّها، وهذا ما يأباه كلُّ موحِّدٍ يؤمن باللهِ واليومِ الآخرِ، ذلك لأنّ عقيدةَ الولاءِ والبراءِ في موافقةِ العبدِ ربَّه فيما يحبّه ويرضاه وفيما يسخطه ويكرهه ويُبغضه ولا يرضاه من الأقوالِ والأفعالِ والاعتقاداتِ والذّواتِ واجبةٌ شرعًا، بل إنّ عقيدةَ الولاءِ والبراءِ تُعَدّ من لوازمِ الشّهادةِ وشرطًا من شروطِها لقولِه تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التّوبة: ٢٤].
قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ أَحَبَّ للهِ وَأَبْغَضَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ وَمَنَعَ للهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَان»، وقال أيضا صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الحُبُّ فِي اللهِ وَالبُغْضُ فِي اللهِ».
 فمَن أحبّ اللهَ أحبّ فيه ووالى أولياءَه وعادى أعداءَه، فمن كان كذلك نال ولايةَ اللهِ، ومن أحبّ لغيرِ اللهِ تولاَّه أعداءُ اللهِ تعالى.

ومِن هنا يظهر جليًّا أنّ المبدأَ الصّحيحَ الجامعَ للأمّةِ الذي أراده الشّرعُ هو «الإسلامُ»، وأنّ الصِّلَةَ التي على أساسِها يقوم المجتمعُ إنّما هي رابطةُ الأخوّةِ الإيمانيّةِ، والتي أثبتها اللهُ عزّ وجلّ في كتابِه الكريمِ للمؤمنين في قولِه تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠]، وهي رابطةٌ مقدَّمةٌ على غيرِها من الرّوابطِ الأخرى، فالأخوّةُ النَّسَبِيّةُ الطّينيّةُ والعصبيّةُ قوميّةً كانت أو حزبيّةً أو وطنيّةً لا تتماسك مع قوّةِ رابطةِ الدِّينِ التي هي الصّلةُ الباقيةُ بين النّاسِ يومَ القيامةِ، وما عداها فمنقطِعٌ، قال تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾ [البقرة: ١٦٦]، ولا يخفى أنّ الرّابطةَ القوميّةَ التي يعتبرها أصحابُها الرّابطةَ الوحيدةَ التي تنصهر في بوتقتِها جميعُ العصبيّاتِ المذهبيّةِ والطّائفيّةِ والقَبَليّةِ لا تفرِّق بين العهودِ الجاهليّةِ والإسلامِ، وقيمةُ المواطنِ بحَسَبِ عملِه في سبيلِ تقدُّمِ الأمّةِ دون نظرٍ إلى أيِّ اعتبارٍ آخَرَ، ولا تمييزٍ في هذه الرّابطةِ بين المسلمِ واليهوديِّ والنّصرانيِّ والشّيوعيِّ، فيقدِّمون النّصرانيَّ العربيَّ والشّيوعيَّ العربيَّ على المسلمِ غيرِ العربيِّ، حتى أضحى شاعرُهم يقول:

يَا مُسْلِمُونَ وَيَا نَصَارَى دِينُكُمْ * دِينُ العُرُوبَةِ وَاحِدٌ لاَ اثْنَانِ

وقال آخرُ:

آمَنْتُ بِالبَعْثِ رَبًّا لاَ شَرِيكَ لَهُ * وَبِالعُرُوبَةِ دِينًا مَا لَهُ ثَانِ

وقال ثالثٌ:

سَلاَمٌ عَلَى كُفْرٍ يُوَحِّدُ بَيْنَنَا * وَأَهْلاً وَسَهْلاً بَعْدَهُ بِجَهَنَّمِ.

وما كان لهذه الرّابطةِ إلاَّ المخازي والمهالكُ والإفسادُ ونشرُ الظّلمِ والخوفِ والإلحادُ ونهبُ الثّرواتِ وتضييعُ الأراضي والممتلكاتِ.”
” أقول : لمَّا ضُيِّع الدين واستُبدِل بمبادىء ومناهج الكافرين ضاعت بلاد المسلمين ولن تعود عزيزة الَّا اذا عُدنا الى شرع رب العالمين والى سُنة نبيّه الصادق الامين ”  
وإذا كان الوطنُ دارَ إسلامٍ فإنّ المسلمَ لا يَقْصُر محبّتَه على مسقطِ رأسِه فحَسْبُ، بل ينبغي أن تعمَّ محبّتُه كلَّ وطنٍ مسلمٍ بعيدًا كان أم قريبًا، فتجب نصرتُه وحمايتُه والدّفاعُ عنه؛ لأنّ بواعثَ المحبّةِ الإيمانيّةِ أشملُ من قصرِها على الوطنيّةِ الضّيِّقةِ، إذِ المؤمنون إخوةٌ في الدِّينِ متحابُّون، يقتدي آخرُهم بأوّلِهم، ويدعو بعضُهم لبعضٍ، ويستغفرُ بعضُهم لبعضٍ، مهما تباعدتْ أوطانُهم وتباينتْ أنسابُهم، وامتدَّت أزمانُهم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: ١٠].
وليعلم أنَّ الأخوّةَ الإيمانيّةَ مبنيّةٌ على التّعاونِ الشّرعيِّ بعيدًا عن المسلكِ الحزبيِّ أو الجهويِّ أو الوطنيِّ أو القوميِّ، لقولِه تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢]، وأنّ مبنى التّضامنِ الإسلاميِّ لا يتمّ إلاَّ على عقيدةِ التّوحيدِ، وهو مبدأُ الانطلاقِ في المسيرةِ الدّعويّةِ مع التّركيزِ على الإخلاصِ والمتابعةِ؛ لأنّه لا وحدةَ إلاَّ بالتّوحيدِ، ولا اجتماعَ إلاَّ باتّباعٍ.
فإنّ التّوحيدَ والاتّباعَ مكمنُ عزِّ المسلمين وقُوَّتِهم، واللهُ تعالى لا يُعزُّ قومًا هجروا سببَ عِزَّتِهم.

 اللَّهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، ورُدَّهم إليك ردًّا جميلاً، وارزقْني وإيَّاهم حُبَّك وحُبَّ من يحبُّك وحُبَّ كلِّ عملٍ يقرِّبنا إلى حُبِّك، ويجعلني وإيَّاهم ممّن يستمعون القولَ فيتّبعون أحسنَه، استجابةً للهِ والرّسولِ وخضوعًا لأوامرِ الشّرعِ وانقيادًا له، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٢٤-٢٥].

وآخِرُ دعوانَا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه وإخوانِه إلى يومِ الدِّينِ، وسَلَّم تسليمًا.

Visits: 19