بسم الله الرحمن الرحيم
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ” .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَ مُجَاهِدٌ : لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ ، لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ . وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ .
قال الامام ابن القيم رحمه الله : “وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ؟
فَقَالَ : ” الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ . وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ . وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ” .
فَقَابَلَ الْبِرَّ بِالْإِثْمِ . وَأَخْبَرَ : أَنَّ الْبِرَّ حُسْنُ الْخُلُقِ . وَالْإِثْمَ : حَوَازُ الصُّدُورِ .
وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ : هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ . وَهُوَ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ . وَلِهَذَا قَابَلَهُ بِالْإِثْمِ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ الْبِرُّ : “ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ ” ،
وَقَدْ فُسِّرَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِأَنَّهُ الْبِرُّ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ : طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ . وَالْإِثْمُ حَوَازُ الصُّدُورِ ، وَمَا حَاكَ فِيهَا ، وَاسْتَرَابَتْ بِهِ . وَهَذَا غَيْرُ حُسْنِ الْخُلُقِ وَسُوئِهِ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ . ” اه
وفي المقابل لما قام نبي الله هود عليه السلام بتذكير قومه ووَعَظَهم وإنذارهم وقد أنكر عليهم ما عندهم من الكفر والبطش ونحوه قالوا له : ” إن هذا إلا خُلُقُ الأولين ” تسويغا لما هم عليه من الغواية والضلالة .
وقد روى الامام ابن جرير في تفسيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ : ( إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) يَقُولُ :دِينُ الْأَوَّلِينَ.
ثم قال ابن جرير رحمه الله بعد أن ذكر أقوال أهل التفسير في الاية :
” وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ : قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ( إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ ، بِمَعْنَى : إِنْ هَذَا إِلَّا عَادَةُ الْأَوَّلِينَ وَدِينُهُمْ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا عُوتِبُوا عَلَى الْبُنْيَانِ الَّذِي كَانُوا يَتَّخِذُونَهُ ، وَبَطْشِهِمْ بِالنَّاسِ بَطْشَ الْجَبَابِرَةِ ، وَقِلَّةِ شُكْرِهِمْ رَبَّهُمْ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ ، فَأَجَابُوا نَبِيَّهُمْ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ ، احْتِذَاءً مِنْهُمْ سُنَّةَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ ، وَاقْتِفَاءً مِنْهُمْ آثَارَهُمْ ، فَقَالُوا : مَا هَذَا الَّذِي نَفْعَلُهُ إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ، يَعْنُونَ بِالْخُلُقِ : عَادَةَ الْأَوَّلِينَ .
وَيَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا وَتَصْحِيحًا لِمَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّأْوِيلِ ، قَوْلُهُمْ : ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّ لَهُمْ رَبًّا يَقْدِرُ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ ، مَا قَالُوا : ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ )
بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ : إِنْ هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ يَا هُودُ إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ ، وَمَا لَنَا مِنْ مُعَذِّبٍ يُعَذِّبُنَا ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ ، وَيَعْبُدُونَ الْآلِهَةَ ، عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَعْبُدُونَهَا ، وَيَقُولُونَ إِنَّهَا تُقَرِّبُنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ، فَلِذَلِكَ قَالُوا لِهُودٍ وَهُمْ مُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ : ( سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ )
ثُمَّ قَالُوا لَهُ : مَا هَذَا الَّذِي نَفْعَلُهُ إِلَّا عَادَةَ مَنْ قَبْلَنَا وَأَخْلَاقَهُمْ ، وَمَا اللَّهُ مُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ .
كَمَا أَخْبَرَنَا تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ قَبْلَنَا ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِرُسُلِهِمْ : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) . ” اه
Hits: 127