حكم تصنيف الناس
العلامة صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء
كثر الخوض والقول في هذه الأيام في تصنيف الناس؛ بمعنى تقسيمهم والتمييز بينهم من حيث مذاهبهم، وهذا الأمر فيه تفصيل لا بدَّ من بيانه خشية الالتباس، وذلك على الوجه التالي:
1- تصنيف الناس بحسب الهوى ومن باب التفاخر، فهذا منهي عنه ولا يجوز؛ قال الله _تعالى_: ” يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، وقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: ” كلُّكم لآدم، وآدم من تراب. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى”، فالتميز إنما هو بالتقوى لا باللون والجنس.
2- تصنيف الناس بحسب اعتقاداتهم وأعمالهم لإنزال كل منهم منزلته ومعاملته بما يليق به، فهذا أمر واقع وأمر مشروع؛ فالناس ليسوا على حد سواء، فمنهم الكافر والمؤمن والمنافق والبر والفاجر، وهذا التصنيف وارد في الكتاب والسنة ولا مجال لإنكاره؛ لأنه ثابت شرعاً وواقع فعلاً، وفي المثل: ( مَن كان الناس عنده سواء فليس لعلَّته دواء).
3- تصنيف المؤمنين بحسب ما آتاهم الله من العلم والإيمان والعمل قد جاء في الكتاب والسنة، قال _تعالى_: ” تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ”، وقال _تعالى_: ” لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ” الآية، وقال _تعالى_: ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ”، وقال _تعالى_: ” لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى”.
4- تصنيف المؤمنين إلى سني وبدعي، وإلى مؤمن كامل الإيمان ومؤمن ناقص الإيمان، وإلى مستقيم وعاصٍ، لإنزال كل منزلته ومعاملته بما يليق به شرعاً وإعطائه حقوقه اللائقة به أمر مشروع.
5- تصنيف الكفار بحسب مللهم ومعاملة كل منهم بحسب ما شرعه الله في حقه أمر ضروري وواجب شرعي؛ فالكافر الكتابي له أحكام، والكافر الوثني أو الملحد له أحكام أخرى، هذا في الدنيا أما في الآخرة فجميعهم في النار إذا ماتوا على الكفر، وقد يتفاوتون في العذاب، وعلى كل فلا بدَّ من التمايز بين المؤمنين والكفار وأهل السنة وأهل البدعة؛ قال الله _تعالى_: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ” إلى قوله _تعالى_: “وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ”.
قال الإمام ابن كثير _رحمه الله_: ذكر _تعالى_ أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاؤوا لنصرة الله ورسوله وإقامة دينه وبذلوا أنفسهم وأموالهم في ذلك، وإلى أنصار، وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك، آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم، فهؤلاء “بعضهم أولياء بعض”؛ أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد.
إلى أن قال _رحمه الله_ على قوله _تعالى_: “وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ”: لما ذكر _تعالى_ أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض قطع الموالاة بينهم وبين الكفار. ومعنى قوله _تعالى_: “إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ”؛أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل. انتهى كلامه _رحمه الله_.
6- لا يجوز تصنيف المؤمنين بالظن؛ لأن الأصل في المؤمن الخير، فلا تجوز إساءة الظن به؛ قال الله _تعالى_: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ”، وقال _تعالى_: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ”.
وقد تبين مما سبق أن تصنيف الناس ليس جائزاً مطلقاً ولا ممنوعاً مطلقاً، بل لا بدَّ من التفصيل حسب الأدلة.
وتصنيف الناس حسب الأدلة لا يعني تحريم التعامل بينهم فيما أباح الله من البيع والشراء وتبادل المنافع والخبرات النافعة والتمثيل الدبلوماسي بينهم ومكافأة المحسنين من جميع الأطراف حسبما جاءت به الأدلة ومنع التظالم فيما بينهم؛ قال _تعالى_: “وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى”. ويجب على المسلمين نحو الأطراف الأخرى المخالفة لهم دعوتهم إلى الله، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وجهادهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان، ولا يتركوهم في غيهم وضلالهم وهم يقدرون على بذل الأسباب لإنقاذهم؛ قال _تعالى_: ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ”؛ أي: كنتم خير الناس للناس.
وتبيَّن من هذا أن مقولة منع تصنيف الناس فيها تفصيل، وأن التصنيف الجاري على مقتضى الشرع جائز، بل قد يكون واجباً لبيان الحق ورد الباطل وعدم الالتباس، وإلا لماذا صنفت كتب الفرق والملل والنحل؛ مثل كتاب: (الفَرْق بين الفِرَق) للبغدادي، و(الملل والنحل) للشهرستاني، و(مقالات الإسلاميين) للأشعري، و(الفصل) لابن حزم.
هذا، وبالله _تعالى_ التوفيق.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
Visits: 46