بسم الله الرحمن الرحيم
يجب على كل مسلم أن يعلم علم اليقين الغايةَ التي من أجلها خُلِق ألا وهي إفراد الله تعالى بالعبادة والمحبة والانقياد لأوامره ونواهيه قال سبحانه : “ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون “ فلا يغفل عن هذه الغاية طَرْفَةَ عين ولا يصرفه عنها صارف .
ولقد سخر الله جل وعلا ما في السماوات وما في الأرض تكرما منه لمن حمل أمانة التوحيد والتكاليف الشرعية وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليستعينوا بها على عبادته لا لينشغلوا فيها عما افترضه عليهم وكلفهم به .
وقد ذم الله جل وعلا الكفارَ على ما عندهم من علوم مقصورة على الدنيا وفراغهم من العلم بالله وغفلتهم عن الآخرة حيث قال : “وَعْدَ اللَّهِ ، لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) ” الروم
تأمل كيف نفى عنهم حقيقة العلم المحمود لجهلهم بأشرف العلوم وأنفسها ألا وهو العلم بالله وما شرعه لعباده .
هذه أيةٌ عظيمة من تدبرها ووعاها نجا من أعظم فتن هذا الزمان ألا وهي الإفتتان بما عند الكفار من علوم الدنيا في مجلات شتى .
قال العلامة الشنقيطي في تفسيره : ” وعاب ذلك النوع من العلم بعيبين عظيمين :
أحدهما : قلته وضيق مجاله ، لأنه لا يجاوز ظاهراً من الحياة الدنيا ، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة ، وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض ، والعلم بأوامره ونواهيه ، وبما يقرب عبده منه ، وما يبعده منه ، وما يخلد في النعيم الأبدي من أعمال الخير والشر .
والثاني : دناءة هدف ذلك العلم ، وعدم نيل غايته ، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا ، وهي سريعة الانقطاع والزوال ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود أوجه الإعراب في قوله :” يَعْلَمُونَ ظَاهِراً “ أنه بدل من قوله قبله ” لا يعلمون “، فهذا العلمُ كّ – لا علم – لحقارته . ” اه
ولما كانت الدنيا دار ممر وليست دار مستقر زهَّد الشارعُ فيها وحَقَّرَها كي لا يغتر العباد بها وذمها لأن الأنشغال بها مُبْعِدٌ عن الله والدار الآخرة ، رحمة منه بهم وإحسانا إليهم .
ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم “ حسنه الاباني
قال المناوي في فيض القدير : ” الدنيا ملعونة لأنها غَرَّت النفوس بزهرتها ولذاتها، وإمالتها عن العبودية إلى الهوى حتى سلكت غير طريق الهدى. ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه. أي ما يحبه الله في الدنيا، والموالاة المحبة بين اثنين، وقد تكون من واحد وهو المراد هنا. يعني ملعون ما في الدنيا إلا ذكر الله وما أحبه الله مما يجري في الدنيا، وما سواه ملعون ” اه
وحقيقة الزهد هو خلو القلب من التعلق بما لا ينفع في الآخرة .
قال بعض السلف : ” الزهد: إخراج الدنيا من القلب وجعلها في اليد استعدادا لبذلها وإنفاقها فيما يرضي الله تعالى، وقد يكون الإنسان زاهدا وهو يملك الأموال الطائلة، وكذلك العكس “.
فإذا فهم العبد هذه المسألة وضبطها لم يشكل عليه الجمع بين عمارة الدنيا والزهد فيها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المستدرك على الفتاوى الكبرى: “ إذا سلم فيه القلب من الهلع، واليد من العدوان، كان صاحبه محمودا، وإن كان معه مال عظيم، بل قد يكون مع هذا زاهدا أزهد من فقير هلوع ” . اهـ
وخلاصة المسألة : أن ضابط التطور العمراني أو الصناعي أو الزراعي أو التجاري ونحو ذلك من أنواع التقدم الدنيوي مما أباحه الله جل وعلا ألا يتضمن محاذير شرعية وألا يفضي إلى مفاسد دينية وألا يشغل العباد عما خلقوا من أجله .
فإذا ابتغى المسلم بذلك وجه الله جل وعلا في سبيل إعزاز دينه ورفع كلمته ونفع المسلمين وسد حاجاتهم كان ذلك من أنواع القُرَب وأعمال البر التي يحمد فاعلها ويثاب عليها إذا أخلص في نيته وصانها عما يفسدها .
بل قد يكون عمله هذا صدقة جارية بعد مماته تدر عليه حسنات وهو في قبره.
فتكون حينئذ داخلة في المعنى العام للعبادة وهي فعل ما يحبه الله ويرضاه
والأجر يَعْظُمُ بِتَعَدِ النَفْعِ وكثرتِهِ مع شِدَّةِ الحاجة إليه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
والله أعلم والحمد لله رب العالمين .
Visits: 128