لا يَسْتَخِفَنَّك الذين لا يُوقِنُون
كيف نحكم على منهج أو سلوك مُعيَّن بالاعتدال أو (التشدّد أو التُمييع)؟
لا يَصِحَّ الجواب على هذا السؤال إلا بتحكيم الشرع وإبعاد الهوى ولا يَصِحُّ أبداً تحديد الاعتدال بناءً على ما تهواه النفس وتميل إليه. قال الله الحكيم الخبير:{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} المائدة:48 فالاعتدال حق، ودلت النصوص على أن الحق لا يُعرَف باتباع الهوى بل يعرف باتباع الشرع.
ومن هنا قال العلماء:«المعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنَّه الميلُ إلى خلاف الحقِّ». فالشرع هو الحاكم، وحكمه هو الحق، ومتى أحسَّت النفس بأن حكم الشرع يتنافى مع الاعتدال واليسر فإنما هو لخلل فيها وغلبة الهوى عليها، وقد عُلِمَ أن حب الشيء يُعمِي ويصم؛ «فجميعُ المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على الحق الذي شرعه الله ورسوله، وقد وصف اللهُ المشركين باتِّباع الهوى في مواضع من كتابه. قال – تعالى -: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} [القصص:50]. وكذلك البدعُ، إنَّما تنشأ من تقديم الهوى على الشَّرع؛ ولهذا يُسمى أهلُها أهل الأهواء». وعلاج هذا المرض ورد في قوله تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
قال العلاَّمة ابن رجب رحمه الله: “انَّ الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنَّواهي وغيرها، فيحبُّ ما أُمر به، ويكره ما نُهِي عنه .
وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. وذمَّ – سبحانه – من كَرِه ما أحبَّه الله، أو أحبَّ ما كرهه الله، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، وقال – تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]. فالواجب على كلِّ مؤمن أنْ يُحِبَّ ما أحبَّه الله محبةً توجِبُ له الإتيان بما وجب عليه منه، فإنْ زادت المحبَّةُ حتَّى أتى بما نُدِب إليه منه كان ذلك فضلاً، وأنْ يكره ما كرهه الله – تعالى – كراهةً توجِبُ له الكـفَّ عمَّا حـرَّم عليه منه، فإنْ زادت الكراهةُ حتَّى أوجبت الكفَّ عمَّا كرهه تنْزيهاً، كان ذلك فضلاً» اهـ. من جامع العلوم والحكم
فهذا الاتباع لدلالة النص والامتثال لتوجيهه، هو الحق المحمود، وهو الاعتدال، وما يقابله من تأويل عقلاني أو كشفي أو غيرهما هو الهوى المذموم وإن أُلبِس لبوس الاعتدال أو العقلانية أو الروحانية.
قال الامام الشاطبي: «العقل إذا لم يكن متَّبعاً للشرع لم يبقَ له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين؛ ألا ترى إلى قول الله – تعالى -: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:26]؟
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده؛ وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرَّداً؛ إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك. وقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}[الكهف: 28]، فجعل الأمر محصوراً بين أمرين: اتباع الذكر، واتباع الهوى. وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ}[القصص: 50]، وهي مثل ما قبلها.
وتأمَّلوا هذه الآية؛ فإنها صريحة في أنَّ من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضل منه، وهذا شأن المبتدع؛ فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله، وهدى الله هو القرآن، وما بينته الشريعة.
وبيّنت الآية أن الاتباع على ضربين:
أحدهما: أن يكون تابعاً للأمر والنهي، فليس بمذموم ولا صاحبه بضال، كيف وقد قدَّم الهدى واستنار به في طريق هواه؟ وهو شأن المؤمن المتقي.
والآخر: أن يكون هواه هو المقدَّم بالقصد الأول – كان الأمر والنهي تابعين بالنسبة إليه أو غير تابعين – وهو المذموم» اهـ.
فهذا هو الحق الذي يورث الاعتدال والسماحة؛ إنه تعظيم النص والمبادرة إلى العمل به امتثالا للأمر واجتناباً للنهي وإن تبادر منه ما يتنافى مع هوى النفس. وحقيقة تزكية النفس هو حَمْلها على ذلك، ومجاهدتها حتى تصير مطمئنة به؛ فمن عجز عن العمل بذلك أو ضعف عن تصور أحقيَّته، فلا يصح منه أن يصف المجتهدين بالتشدد والغلو كما يفعل أولئك الذين سلكوا مسلك التأويل الباطل للنصوص من أجل التخلص مما تضمنته من أحكام.
وإذا ظهر لنا المعيار الصحيح لتحديد مفهوم الاعتدال، فلا بد أن نبيِّن هنا أن التطـرف قسمان؛ تطرُّف نحو الغلو، وتطرف نحو التمييع والتساهل المذموم.
ولا يمكن أن يوصف سلوك المرء بالاعتدال والوسطية والسماحة إلا إذا سلم من التطرف والتمييع وكلاهما مذموم؛ وهو ما ينبغي أن يفهمه أولئك الذين يرمون أهل الحق بالتطرف والتشدد زورا وبهتانا، وهم غارقون في الميوعة والتهاون والتقصير، الذي يسوِّغونه: إما بمفهـوم خاطئ للرجاء، وإما بتأويل باطل للنص، وإما بالإهمال وانعدام المبالاة.
وقد شاع هذا التصور مع الأسف حتى صار هؤلاء هم من يوصفون بالسماحة والاعتدال.
وهكذا فشا هذا المعيار الفاسد في الحكم على الشيء بالاعتدال أو التطرف؛ فكلما تخلص المسلم من قيد شرعي كلما اشتد وصفه بالسماحة والاعتدال، وكلما التزم مسلم بقيد شرعي أو هدي نبويّ كلما كان أقرب إلى التشدد والتنطع والمبالغة !. للأسف فشا هذا المعيار في مجتمعاتنا وطغى على إعلامنا، وانتقل من حيِّز السلوك والعمل إلى مجال الفكر والتأطير الفلسفي، بل السياسي أيضاً؛ وهو ما يشهد به سيل من التقارير والتصريحات والمواقف.
فما ذنب صاحب السنة المتمسك بعقيدة ومنهج السلف من الصحابة والتابعين؟!
وما ذنبه إذا اعتقد معتقدهم كحرمة الخروج على الحكام الظلمة والثورات حقنا للدماء وتسكينا للدهماء .
واتبع مذهبهم – وهو الحق لا ريب فيه –: كحرمة الاستماع إلى الموسيقى وحلق اللحية والإسبال والخلوة وسفر المرأة بغير محرم ومصافحتها إن لم تكن من محارمه، واعتقد مشروعية النقاب ، ونحو ذلك من الأحكام التي تضيق بها نفوس وتمجُّها طباع، حتى صارت في المجتمع غريبة، وأحياناً محطَّ سخرية واستهزاء؟ .
فالى الله المشتكى من غُربة الحق وأهله وتحريف السنة والطعن في دعاتها ، وعنده سبحانه الملتقى – يوم لا ينفع مال ولا جاه ولا بنون – وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون.
Visits: 45