ماذا ينبغي أنَ تستحضِرَ قبل التسليم من صلاتك – عند التعوُّذ من فتنة المَحيَا والمَمَات

Home / الحديث / ماذا ينبغي أنَ تستحضِرَ قبل التسليم من صلاتك – عند التعوُّذ من فتنة المَحيَا والمَمَات
ماذا ينبغي أنَ تستحضِرَ قبل التسليم من صلاتك – عند التعوُّذ من فتنة المَحيَا والمَمَات
العلامة بن عثيمين رحمه الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر المسيح الدجال ) رواه البخاري ( 1311 ) ومسلم ( 588 ) .
” قوله : ” ومن فتنة المحيا والممات ” معطوفة على ” من عذاب جهنم ” ، والمراد بالفتنة : اختبار المرء في دينه ؛ في حياته وبعد مماته ، وفتنة الحياة عظيمة وشديدة ، وقلَّ من يتخلَّص منها إلا مَنْ شاء الله ، وهي تدور على شيئين :
1 – شُبُهات     2 – شهوات .
أما الشُّبُهات : فتعرض للإنسان في عِلْمِه ، فيلتبس عليه الحقُّ بالباطل ، فيرى الباطل حقًّا ، والحقَّ باطلاً ، وإذا رأى الحقَّ باطلاً تجنَّبه ، وإذا رأى الباطلَ حقّاً فَعَلَهُ .
وأمَّا الشَّهوات : فتعرض للإنسان في إرادته ، فيريد بشهواته ما كان محرَّماً عليه ، وهذه فتنة عظيمة ، فما أكثر الذين يرون الرِّبا غنيمة فينتهكونه ! وما أكثر الذين يرون غِشَّ النَّاسِ شطارةً وجَودةً في البيع والشِّراء فيغشُّون ! وما أكثر الذين يرون النَّظَرَ إلى النساء تلذُّذاً وتمتُّعاً وحرية ، فيطلق لنفسه النظر للنساء ! بل ما أكثر الذين يشربون الخمر ويرونه لذَّة وطرباً ! وما أكثر الذين يرون آلاتِ اللهو والمعازف فنًّا يُدرَّسُ ويُعطى عليه شهادات ومراتب!
وأما فتنة الممات : فاختلف فيها العلماءُ على قولين :
القول الأول : إن ” فتنة الممات ” : سؤال الملَكَين للميِّت في قَبْرِه عن ربِّه ، ودينه ونبيِّه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنه أُوحِيَ إليَّ أنكم تُفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة المسيح الدَّجَّال ) ، فأمَّا مَنْ كان إيمانُه خالصاً فهذا يسهل عليه الجواب .
فإذا سُئل : مَنْ ربُّك ؟ قال : ربِّي الله .
مَنْ نبيُّك ؟ قال : نبيِّي محمَّد .
ما دينك ؟ قال : ديني الإسلام ، بكلِّ سُهولة .
وأما غيره – والعياذ بالله – فإذا سُئل قال : هاه … هاه … لا أدري ؛ سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته .
وتأمل قوله : ” هاه … هاه … ” كأنه كان يعلم شيئاً فنسيه ، وما أشدَّ الحسرة في شيء علمتَه ثم نسيتَه ؛ لأن الجاهل لم يكسب شيئاً ، لكن النَّاسي كسب الشيء فخسره ، والنتيجة يقول : لا أدري مَنْ ربِّي ، ما ديني ، مَنْ نبيي ، فهذه فتنة عظيمة ؛ أسألُ الله أن ينجِّيني وإيَّاكم منها ، وهي في الحقيقة تدور على ما في القلب ، فإذا كان القلب مؤمناً حقيقة : يرى أمور الغيب كرأي العين ، فهذا يجيب بكلِّ سُهولة ، وإن كان الأمر بالعكس : فالأمر بالعكس .
القول الثاني : المراد بـ ” فتنة الممات ” : ما يكون عند الموت في آخر الحياة ، ونصَّ عليها – وإنْ كانت مِن فتنة الحياة – لعظمها وأهميتها ، كما نصَّ على فِتنة الدَّجَّال مع أنها مِن فتنة المحيا ، فهي فِتنة ممات ؛ لأنها قُرب الممات ، وخصَّها بالذِّكر لأنها أشدُّ ما يكون ؛ وذلك لأن الإنسان عند موته ووداع العمل صائر إما إلى سعادة ، وإما إلى شقاوة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنَّة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتابُ ؛ فيعملُ بعملِ أهل النَّارِ ) فالفتنة عظيمة .
وأشدُّ ما يكون الشيطانُ حرصاً على إغواء بني آدم في تلك اللحظة ، والمعصومُ مَنْ عَصَمَه الله ، يأتي إليه في هذه الحال الحرجةِ التي لا يتصوَّرها إلا من وقع فيها ، قال تعالى : (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ . وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ . وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ . وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) القيامة/26– 30 ، حال حرجة عظيمة ، الإنسانُ فيها ضعيفُ النَّفْسِ ، ضعيفُ الإِرادة ، ضعيفُ القوَّة ، ضيقُ الصَّدر ، فيأتيه الشيطانُ ليغويه ؛ لأن هذا وقت المغنم للشيطان .
حتى إنه كما قال أهل العلم قد يعرضُ للإِنسان الأديان اليهودية ، والنصرانية ، والإسلامية بصورة أبويه ، فيعرضان عليه اليهودية والنصرانية والإسلامية ، ويُشيران عليه باليهودية أو بالنصرانية ، والشيطان يتمثَّلُ كُلَّ واحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه أعظم الفِتَن.
ولكن هذا – والحمد لله – لا يكون لكلِّ أحدٍ ، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وحتى لو كان الإنسان لا يتمكَّن الشيطان من أن يَصِلَ إلى هذه الدرجة معه ، لكن مع ذلك يُخشى عليه منه .
يقال : إنَّ الإمام أحمد وهو في سكرات الموت كان يُسمَعُ وهو يقول : بَعدُ ، بَعدُ  “، فلما أفاق قيل له في ذلك ؟ قال : إنَّ الشيطان كان يعضُّ أنامله يقول : فُتَّني يا أحمد  “، يعضُّ أنامله ندماً وحسرة كيف لم يُغوِ الإمام أحمد ! فيقول له أحمد : بعدُ ، بعدُ  أي : إلى الآن ما خرجت الرُّوح ، فما دامت الرُّوح في البدن فكلُّ شيء وارد ومحتمل ،  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا آل عمران/8 ، في هذه الحال فتنة عظيمة جدّاً ، ولهذا نصَّ النبي صلى الله عليه وسلم عليها قال : ” مِن فِتنة المحيا والممات” .
فالحاصل : أنَّ فتنة الممات فيها تفسيران :
التفسير الأول : الفتنة التي تكون عند الموت .
والثاني : التي تكون بعد الموت ، وهي سؤال الملكين الإنسان عن رَبِّه ودينه ونبيِّه .
ولا مانع بأن نقول : إنَّها تشمَلُ الأمرين جميعاً ، ويكون قد نصَّ على الفتنة التي قبل الموت وعند الموت ؛ لأنَّها أعظم فتنة تَرِدُ على الإنسان ، وذكر ما يُخشى منها من سوء الخاتمة إذا لم يُجِرِ اللَّهُ العبد من هذه الفتنة .
وعلى هذا ينبغي للمتعوِّذ مِن فِتنة الممات أن يستحضر كلتا الحالتين .
” الشرح الممتع ” ( 3 / 185 – 188 ) .

 

Visits: 86