ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (النبوات) أن نصر الأنبياء على قومهم يكون على وجهين:
الأول: بإهلاك الأمم وإنجاء الرسل وأتباعهم.
والثاني: بإظهار برهان النبي بالحجة والعلم والقدرة.
وذكر – رحمه الله – ما حصل مع إبراهيم وقومه في هذا النوع الثاني، فقال: والله تعالى لم يذكر قط عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا، كما ذكر ذلك عن غيرهم، بل ذكر أنهم ألقوه في النار، فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأرادوا به كيدا، فجعلهم الله الأسفلين الأخسرين.
وفي هذا: ظهور برهانه، وآيته، وأنه أظهره عليهم بالحجة والعلم، وأظهره أيضا بالقدرة؛ حيث أذلهم ونصره. وهذا من جنس المجاهد الذي هزم عدوه، وتلك من جنس المجاهد الذي قتل عدوه.
وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم، بل هاجر وتركهم. وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين ظهراني قومهم حتى هلكوا، فلم يوجد في حق قوم إبراهيم سبب الهلاك؛ وهو إقامته فيهم، وانتظار العذاب النازل.
وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه لم يقم فيهم، بل خرج عنهم، حتى أظهره الله تعالى عليهم بعد ذلك.
ومحمد وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- أفضل الرسل؛ فإنهم إذا علموا الدعوة، حصل المقصود. وقد يتوب منهم من يتوب بعد ذلك؛ كما تاب من قريش من تاب.
وأما حال إبراهيم: فكانت إلى الرحمة أميل، فلم يسع في هلاك قومه، لا بالدعاء، ولا بالمقام، ودوام إقامة الحجة عليهم.
وقد قال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم}. وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم، فعوقبوا.
وقوم إبراهيم أوصلوه إلى العذاب، لكن جعله الله عليه بردا وسلاما، ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب؛ إذ الدنيا ليست دار الجزاء التام، وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة؛ كما في العقوبات الشرعية.
فمن أراد أعداؤه -من أتباع الأنبياء- أن يهلكوه فعصمه الله، وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه، ولم يهلك أعداءه، بل أخزاهم، ونصره؛ فهو أشبه بإبراهيم.
وإذا عصمه من كيدهم، وأظهره حتى صارت الحرب بينه وبينهم سجالا، ثم كانت العاقبة له، فهو أشبه بحال محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن محمدا سيد الجميع، وهو خليل الله؛ كما أن إبراهيم خليله.
والخليلان: هما أفضل الجميع، وفي طريقتهما من الرأفة والرحمة، ما ليس في طريقة غيرهما. انتهى
Visits: 145