قال العلامة محمد بن علي فركوس الجزائري :
“الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا يُسَنُّ أخذُ ماءٍ جديدٍ لمسحِ الأُذُنين في الوضوء إلَّا عند الحاجة، وهو مذهبُ الحنفيةِ(١) وروايةٌ عند الحنابلة(٢)؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ»(٣)،
قال المُناويُّ ـ رحمه الله ـ: «الأُذُنان مِنَ الرأس: لا مِنَ الوجه ولا مُستقِلَّتان، يعني: فلا حاجةَ إلى أخذِ ماءٍ جديدٍ مُنفرِدٍ لهما غيرِ ماء الرأس في الوضوء، بل يجزئ مسحُهما ببللِ ماءِ الرأس، وإلَّا لَكان بيانًا للخِلْقة فقط، والمصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم لم يُبْعَثْ لذلك»(٤)،
وكُلُّ مَنْ وَصَفَ وضوءَه صلَّى الله عليه وسلَّم لم يذكر أنه جدَّد الماءَ للأذنينِ، وقد روى أبو داودَ وغيرُه بسندٍ صحيحٍ مِنْ حديثِ عبد الله بنِ زيدٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم «مَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدِهِ»(٥)،
قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وكان [صلَّى الله عليه وسلَّم] يمسح أُذُنَيْه مع رأسه، وكان يمسح ظاهِرَهما وباطِنَهما، ولم يثبت عنه أنه أخَذ لهما ماءً جديدًا، وإنما صحَّ ذلك عن ابنِ عمر»(٦).
أمَّا ما رواه البيهقيُّ مِنْ حديثِ عبدِ الله بنِ زيدٍ رضي الله عنه: «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ فَأَخَذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً خِلَافَ المَاءِ الَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ»(٧) فشاذٌّ لِمُخالَفتهِ للحديثِ المتقدِّم، وقد صَرَّحَ بشذوذِه الحافظُ ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في «بلوغ المَرام»(٨)،
ومع ذلك يمكنُ حملُه على انتهاءِ البللِ مِنْ على يديه قبلَ استيعابِ الرأس؛ فاحتاجَ إلى أخذِ ماءٍ جديدٍ لاستكمالِ المسحِ على الأُذُنين، وبه يُفسَّرُ فعلُ ابنِ عمر رضي الله عنهما؛ جمعًا بينَ الروايتينِ وتوفيقًا بين الحُكمين.
أمَّا حديثُ: «خُذُوا للرَّأْسِ مَاءً جَدِيدًا»(٩) فضعيفٌ جدًّا لا يقوى على النهوض والاحتجاج.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا. ” اه
الجزائر في: ٢٢ مِنَ المحرَّم ١٤٣٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٩ جانفي ٢٠٠٩م
الموافق ﻟ: ١٩ جانفي ٢٠٠٩م
(١) انظر: «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (١/ ١٩).
(٢) انظر: «المغني» لابن قدامة (١/ ١٣٢).
(٣) أخرجه أبو داود في «الطهارة» بابُ صفةِ وضوء النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (١٣٤)، والترمذيُّ في «الطهارة» بابُ ما جاء أنَّ الأذنين مِنَ الرأس (٣٧)، وابنُ ماجه في «الطهارة» باب: الأذنان مِنَ الرأس (٤٤٤)، مِنْ حديثِ أبي أمامة الباهليِّ رضي الله عنه. وحسَّنه ابنُ دقيق العيد، وقوَّاه ابنُ القطَّان كما ذَكَر الزيلعيُّ في «نصب الراية» (١/ ١٨)، وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٨١) رقم: (٣٦).
(٤) «فيض القدير» للمُناوي (٣/ ١٧٣).
(٥) أخرجه مسلمٌ في «الطهارة» (٢٣٦) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ زيد بنِ عاصمٍ المازنيِّ رضي الله عنه. وفي البخاريِّ في «الوضوء» بابُ مَسْحِ الرأس مرَّةً (١٩٢): «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ».
(٦) «زاد المَعاد» لابن القيِّم (١/ ١٩٤).
(٧) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٥٣٨)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٣٠٨)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ زيدٍ رضي الله عنه. وانظر ـ لمعرفةِ شذوذه ـ: «السلسلة الصحيحة» (١/ ٩٠٥) و«السلسلة الضعيفة» (٢/ ٤٢٤) كلاهما للألباني.
(٨) انظر: «بلوغ المَرام» لابن حجر (١/ ١٠٢).
(٩) أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (٢/ ٢٦٠) رقم: (٢٠٩١)، عن نِمْرانَ بنِ جارية عن أبيه رضي الله عنه. قال الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» (١/ ٥٣٦): «وفيه دَهْثَمُ بنُ قُرَّانَ: ضعَّفه جماعةٌ وذَكَره ابنُ حبَّان في «الثِّقَات»»، وانظر: «السلسلة الضعيفة» (٢/ ٤٢٣).
Visits: 39