قال الامام الشاطبي في مقدمة كتابه الاعتصام :
” كَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِهِ وَجِدَّتِهِ مُقَاوِمًا بَلْ ظَاهِرًا ، وَأَهْلُهُ غَالِبُونَ ، وَسَوَادُهُمْ أَعْظَمُ الْأَسْوِدَةِ ، فَخَلَا مِنْ وَصْفِ الْغُرْبَةِ بِكَثْرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلِيَاءِ النَّاصِرِينَ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ – مِمَّنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَهُمْ ، أَوْ سَلَكَهُ وَلَكِنَّهُ ابْتَدَعَ فِيهِ – صَوْلَةٌ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا ، وَلَا قُوَّةٌ يَضْعُفُ دُونَهَا حِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ ، فَصَارَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ ، وَجَرَى عَلَى اجْتِمَاعٍ وَاتِّسَاقٍ ، فَالشَّاذُّ مَقْهُورٌ مُضْطَهَدٌ ، إِلَى أَنْ أَخَذَ اجْتِمَاعُهُ فِي الِافْتِرَاقِ الْمَوْعُودِ ، وَقُوَّتُهُ إِلَى الضَّعْفِ الْمُنْتَظَرِ ، وَالشَّاذُّ عَنْهُ تَقْوَى صَوْلَتُهُ وَيَكْثُرُ سَوَادُهُ ، وَاقْتَضَى سِرُّ التَّأَسِّي الْمُطَالَبَةَ بِالْمُوَافَقَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ أَغْلَبُ ، فَتَكَالَبَتْ عَلَى سَوَادِ السُّنَّةِ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ ، فَتَفَرَّقَ أَكْثَرُهُمْ شِيَعًا .
وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ; أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي جَنْبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ قَلِيلٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ، وَلِيُنْجِزَ اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ إِلَيْهِ ، فَإِنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأَهْلِ أَوْ قِلَّتِهِمْ ، وَذَلِكَ حِينَ يَصِيرُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا ، وَتَصِيرُ السُّنَّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً ، فَيُقَامُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِالتَّثْرِيبِ وَالتَّعْنِيفِ ، كَمَا كَانَ أَوَّلًا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ; طَمَعًا مِنَ الْمُبْتَدِعِ أَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الضَّلَالِ ،
Visits: 94