قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى : ( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) البقرة/ من الآية 61 – :
( وضربت عليهم الذلة والمسكنة ) : خبرٌ مِن الله عن بني إسرائيل أنه ضُربت عليهم الذلة والمسْكنة ، ( الذلة ) هذه في الشجاعة ، أذلة ، لا يقابِلون عدوّاً ، قال الله تعالى : ( لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ ) الحشر/14 .
و( المَسْكَنة ) يعود إلى الفقر ، فليس عندهم شجاعة ، وليس عندهم غِنى ، لا كرماً بالمال ، ولا كرماً بالنفس ؛ لأن الشجاعة كرم بالنفس ، يجود الإنسان بنفسه لإعلاء كلمة الله ، والكرم : جود بالمال ، ثم – والعياذ بالله – ما حصل لهم هذا ، ولا هذا ، بل العكس ( ضُرِبَت عَلَيْهِم الذِّلَّة ) فلا شجاعة عندهم ، وضربت عليهم المسكنة فلا جود عندهم ، ولهذا لا يوجد أمَّة أفقر من اليهود ، ولا أبخل ،
أي : لا أفقر قلباً منهم ، وليس مالاً ، وإلا فأموالهم كثيرة .
فهذه الذلة – والعياذ بالله – عليهم مضروبة ، وكذلك المسْكنة ، فإذا قال قائل : الواقع خلاف هذا الأمر ؟!
قلنا : لا يمكن أن يكون الواقع مخالفاً لكلام الله ، ورسوله ، وإنما الخطأ في الفهم ، والتصور ، أما كلام الله : فلا يختلف ، فنقول :هذه الآية مطلقة – أي : قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) البقرة/61- وفي قوله تعالى في آل عمران : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)آل عمران/112 : يقيِّد هذه الآية ، ويصير المعنى : ” ضُربت الذلة إلا بحبلٍ مِن الله وحبلٍ مِن الناس ” ، فإذا وصلهم الله تعالى ، أو وصلهم الناس : فإنهم تزول عنهم الذلة ، ويكون معهم شجاعة ، وقوة .
الحبل من الله ما هو ؟ قيل : إنه الإسلام ، والحبل من الناس : أن يمدهم الناس غير اليهود بما يمدونهم به ، فاليهود الموجودون الآن في حبلٍ من الناس يمدهم ، وهم النصارى في كل مكان ، يمدونهم ؛ لأن الله يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) المائدة/51 ، وهذا خبر ، والخبر من الله : لا يُخلف ، النصارى تمدهم من جميع أقطار الدنيا ، إما علناً وإما سرّاً ، وإما مباشراً أو غير مباشرٍ .
الحبل من الله قلنا : إنه الإسلام – على ما ذكره كثير من أهل العلم – ويحتمل عندي : أنه أعم من الإسلام ؛ لأنهم إذا أسلموا : زال عنهم وصف اليهودية ، وصاروا من المسلمين ،
لكن عندي أنه ( حبل من الله ) : أن الله قد يسلطهم على غيرهم ؛ عقوبةً لهم ، قد يُسلَّطون على غيرهم ، وتكون لهم الغلبة ، عقوبة على الآخرين ؛ لعلهم يرجعون إلى الله عز وجل ، لا سيما إذا كانوا من أمَّة محمد عليه الصلاة والسلام ، وعصوا وأَبعدوا عن هذه الملة : فإن الله عز وجل يسلِّط عليهم مَن شاء مِن خلقه ؛ لعلهم يرجعون.
وهذا الأمر هو الواقع ، لو نظرنا إلى الذين جعلوا أنفسهم في مسير هؤلاء اليهود – وهم العرب – : لوجدنا أكثرهم ضالين – ولا سيما ذوي القيادات منهم – منحرفين عن الحق ، بل ربما يصل أمر بعضهم إلى الكفر – والعياذ بالله – ، فلذلك يسلَّط عليهم هؤلاء ، ويحصل ما يحصل .
إذن يزول عنَّا الاشتباه في قوله : ( وَضُرِبَت عَلَيْهِم الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ ) : ” لماذا نراهم الآن في هذه الحال ، والآية خبرٌ من الله ، وخبر الله حق وصدق ، لا يمكن أن يتخلف ” :
فالجواب : أن هذه الآية مقيَّدة بقوله تعالى ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ) ، وانظر التقييد في ” آل عمران ” : تقييد في الذلة فقط ، لكن المسكنة غير مقيدة ، ولذلك هم مضروب عليهم المسكنة أينما كانوا ، ولا يمكن أن يبذلوا قرشاً إلا وهم في أملٍ أن يحصلوا درهماً ، فالمسكَنة مطلقة ، والمذلة مقيدة ، ( إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ ) .اه ” تفسير سورة البقرة ” ( الشريط رقم 10 ، وجه أ ) .
Visits: 926