كراهية الموت وتمني الموت بين المشروع والممنوع

Home / الحديث / كراهية الموت وتمني الموت بين المشروع والممنوع
كراهية الموت وتمني الموت بين المشروع والممنوع
بسم الله الرحمن الرحيم 
 

أولا : تنقسم كراهية الموت إلى  قسمين :  

الأول : كراهة جبلية لا يؤاخذ العبد عليها   التي أودعها الله بين جنبي كل امرئ من خلقه، وهذه ليست مذمومة، لأنها لا تدخل في باب التكليف، وهي التي وردت في قول عائشة  رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه “، فقلت: يا نبي الله أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت، فقال: ” ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه ” .
 
الثاني : كراهية الموت نتيجة ضعف الإيمان وسببها التعلق بالدنيا والشغف بها  فهذه مذمومه وهي التي أطلق عليها رسول الله عليه الصلاة والسلام اسم  الوَهَن الذي يُقْذَفُ في قلوب كثير من المسلمين بسبب بعدهم عن دين ربهم وسنة نبيهم ، ويكثر هذا الصنف – نعوذ بالله من ذلك – كلما تقدم الزمان .
 
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال:بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال:حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت ”  صحيح أبي داود
 
حُبُّ الدُّنيا والتعلُّق بها والحرص عليها، والانغماس في ملذَّاتها وشهواتها، كلُّ ذلك يولِّد الوَهَن في القلب . 
والحرص على حياة، أي حياة كانت، حتى لو غُمِسَت بذُلٍّ، وكُسِيت بعارٍ، هذه صفةٌ مِن صفات اليهود الأذلَّة، ومَن اتَّصف بها كان مشابهًا لهم فيها، قال الله تبارك وتعالى: ” وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ “  
 
 قال الطيبيُّ رحمه الله: “ سؤالٌ عن نوع الوَهن، أو كأنَّه أراد منِ أي وجه يكون ذلك الوَهنقال:  حبُّ الدُّنيا وكراهية الموت وهما متلازمان، فكأنَّهما شيء واحد، يدعوهم إلى إعطاء الدَّنيَّة في الدِّين مِن العدو المبين، ونسأل الله العافية “
 
ثانيا : ينقسم تمني الموت إلى قسمين قسم ممنوع وهو تمني الموت بسبب الضر في الدنيا وضيق العيش وقسم مشروع وهو تمني الموت خشية الفتنة في الدين أو نيل الشهادة في سبيل الله ربِّ العالمين .
 
فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ , وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ ، وَإِنَّهُ لا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلا خَيْرًا ) رواه مسلم  .

فجمع بين النهي عن تمني الموت ، والنهي عن الدعاء به على النفس .

وعند البخاري  بلفظ : ( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ ) .

قَالَ النَّوَوِيّ : فِي الْحَدِيث التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ فَاقَة ، أَوْ مِحْنَة بِعَدُوٍّ ، وَنَحْوه مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا , فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا أَوْ فِتْنَة فِي دِينه فَلا كَرَاهَة فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث , وَقَدْ فَعَلَهُ خَلَائِق مِنْ السَّلَف .

وَقَوْله ” يَسْتَعْتِبُ ” أَيْ يَسْتَرْضِي اللَّه بِالإِقْلاعِ وَالاسْتِغْفَار .

قال ابن رجب رحمه الله : “ وقد كان كثير من الصالحين يتمنى الموت في صحته ، فلما نزل به كرهه لشدته ، ومنهم أبو الدرداء وسفيان الثوري ، فما الظن بغيرهما ؟!” .

ولا شك أن تمني الموت بسبب ما نزل من ضر وبلاء في الدنيا جزعٌ منهيٌ عنه  ينافي الصبر الواجب المأمور به شرعا   فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: “ لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ , فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي , وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي )متفق عليه . 

وعند النسائي بلفظ : ” لا يتمنَّينَّ أحدُكُمُ الموتَ ، لِضرٍّ نزَلَ بهِ في الدُّنيا “ جاء الضر هنا مقيدا فيحمل المطلق في الرواية السابقة على المقيد هنا ، فدل ذلك على أن الضر الذي لا يشرع لأجله تمني الموت هو الضرر الدنيوي كالمرض والابتلاء في المال والأهل والأولاد وما أشبه ذلك… لا الأُخروي ومن ذلك الفتنة في الدين . 

قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ” ( لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه ) الخطاب للصحابة ، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموما ، وقوله ” من ضر أصابه”  حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي ، فإن وجد الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي ” اه

إذًا هناك حالات يشرع  فيها تمني الموت ، منها :

الأولى :  خشية  الافتتنان في الدين 

وقد دل على مشروعية تمني الموت في هذه الحال أيضاً : قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه : ( وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ) رواه الترمذي وصححه الألباني 

قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا جائز عند أكثر العلماء ” .

وعلى هذا يحمل ما ورد عن السلف في تمني الموت ؛ أنهم تمنوا الموت خوفاً من الفتنة .

قال الله تعالى إخبارا عن مريم : “ قالت يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا  ”  

قال الامام القرطبي في تفسيره : ” تَمَنَّتْ مَرْيَمُ – عَلَيْهَا السَّلَامُ – الْمَوْتَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ لِوَجْهَيْنِ :                      أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فِي دِينِهَا وَتُعَيَّرَ فَيَفْتِنُهَا ذَلِكَ .                                                            الثَّانِي لِئَلَّا يَقَعَ قَوْمٌ بِسَبَبِهَا فِي الْبُهْتَانِ وَالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا وَذَلِكَ مُهْلِكٌ .                                                          وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ يَكُونُ تَمَنِّي الْمَوْتِ جَائِزًا ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . ” اه  

وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ 🙁 اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ : الْمَوْتُ ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ ) رواه أحمد وصححه الألباني

وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ” وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي ” : فيه إباحةُ تمنِّي الموتِ؛ خوفًا من أن يُفْتَنَ في دِينِه  

الثانية : لنيل الشهادة في سبيل الله 

عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ) متفق عليه . 

فقد تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتل في سبيل الله ، وما ذاك إلا لعظم فضل الشهادة .

وروى مسلم في صحيحه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) .

وقد كان السلف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يحبون الموت في سبيل الله .

وقد ذكر ابن جرير الطبريفي تاريخه وابن كثير في البداية والنهاية وغيرهما من المؤرخين أن خالداً رضي الله عنه كتب إلى ملك فارس: ” بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، فالحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم… فأسلموا وإلا فأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ” اه.  

والحمد لله رب العالمين .

Visits: 442