أولا : تنقسم كراهية الموت إلى قسمين :
فجمع بين النهي عن تمني الموت ، والنهي عن الدعاء به على النفس .
وعند البخاري بلفظ : ( لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ ) .
قَالَ النَّوَوِيّ : فِي الْحَدِيث التَّصْرِيح بِكَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوْت لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ مِنْ فَاقَة ، أَوْ مِحْنَة بِعَدُوٍّ ، وَنَحْوه مِنْ مَشَاقّ الدُّنْيَا , فَأَمَّا إِذَا خَافَ ضَرَرًا أَوْ فِتْنَة فِي دِينه فَلا كَرَاهَة فِيهِ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيث , وَقَدْ فَعَلَهُ خَلَائِق مِنْ السَّلَف .
وَقَوْله ” يَسْتَعْتِبُ ” أَيْ يَسْتَرْضِي اللَّه بِالإِقْلاعِ وَالاسْتِغْفَار .
قال ابن رجب رحمه الله : “ وقد كان كثير من الصالحين يتمنى الموت في صحته ، فلما نزل به كرهه لشدته ، ومنهم أبو الدرداء وسفيان الثوري ، فما الظن بغيرهما ؟!” .
ولا شك أن تمني الموت بسبب ما نزل من ضر وبلاء في الدنيا جزعٌ منهيٌ عنه ينافي الصبر الواجب المأمور به شرعا فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: “ لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ , فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلا فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي , وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي )متفق عليه .
وعند النسائي بلفظ : ” لا يتمنَّينَّ أحدُكُمُ الموتَ ، لِضرٍّ نزَلَ بهِ في الدُّنيا “ جاء الضر هنا مقيدا فيحمل المطلق في الرواية السابقة على المقيد هنا ، فدل ذلك على أن الضر الذي لا يشرع لأجله تمني الموت هو الضرر الدنيوي كالمرض والابتلاء في المال والأهل والأولاد وما أشبه ذلك… لا الأُخروي ومن ذلك الفتنة في الدين .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ” ( لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه ) الخطاب للصحابة ، والمراد هم ومن بعدهم من المسلمين عموما ، وقوله ” من ضر أصابه” حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي ، فإن وجد الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي ” اه
إذًا هناك حالات يشرع فيها تمني الموت ، منها :
الأولى : خشية الافتتنان في الدين
وقد دل على مشروعية تمني الموت في هذه الحال أيضاً : قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه : ( وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ) رواه الترمذي وصححه الألباني
قال ابن رجب رحمه الله : ” هذا جائز عند أكثر العلماء ” .
وعلى هذا يحمل ما ورد عن السلف في تمني الموت ؛ أنهم تمنوا الموت خوفاً من الفتنة .
قال الله تعالى إخبارا عن مريم : “ قالت يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ”
قال الامام القرطبي في تفسيره : ” تَمَنَّتْ مَرْيَمُ – عَلَيْهَا السَّلَامُ – الْمَوْتَ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا خَافَتْ أَنْ يُظَنَّ بِهَا الشَّرُّ فِي دِينِهَا وَتُعَيَّرَ فَيَفْتِنُهَا ذَلِكَ . الثَّانِي : لِئَلَّا يَقَعَ قَوْمٌ بِسَبَبِهَا فِي الْبُهْتَانِ وَالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّنَا وَذَلِكَ مُهْلِكٌ . وَعَلَى هَذَا الْحَدِّ يَكُونُ تَمَنِّي الْمَوْتِ جَائِزًا ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . ” اه
وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ 🙁 اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ : الْمَوْتُ ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ ) رواه أحمد وصححه الألباني
وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: ” وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي ” : فيه إباحةُ تمنِّي الموتِ؛ خوفًا من أن يُفْتَنَ في دِينِه
الثانية : لنيل الشهادة في سبيل الله
عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ ) متفق عليه .
فقد تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقتل في سبيل الله ، وما ذاك إلا لعظم فضل الشهادة .
وروى مسلم في صحيحه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ ) .
وقد كان السلف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يحبون الموت في سبيل الله .
وقد ذكر ابن جرير الطبريفي تاريخه وابن كثير في البداية والنهاية وغيرهما من المؤرخين أن خالداً رضي الله عنه كتب إلى ملك فارس: ” بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، فالحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم… فأسلموا وإلا فأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ” اه.
والحمد لله رب العالمين .
Visits: 442